صراع بين العقل والقلب

بينما كنت سائرا في طريقي شاردا بأفكاري , إذ لفتت نظري فتاة , فإذا بي اسمع حوارا دار بداخلي بين قلبي وعقلي , بين الإحساس والمبدأ , لقد كان حوارا حادا , كل طرف يريد أن يقنع الآخر بأفكاره , فأصغيت السمع جيدا , فإذا بي أجد العقل يبدأ بالإقناع لأنني عودته أن يكون سباقا :

العقل يخاطب القلب : انظر أيها القلب , والله إني لأتوسم في تلك الفتاة أنها هي .... هي التي لطالما بحثت عنها ... لا أدري لقد أضيئ عندي مصباح الحظ السعيد .... إن حدسي لا يكذبني .

القلب للعقل : هون عليك يا أخي , إلى أي فتاة تشير , لا تقل لي أنها تلك الفتاة التي تجلس على ذاك الكرسي , أنت تمزح أيها العقل , قل لي أنك تمزح . عندما وقعت عينا صاحبنا عليها , لم تتغير وقع نبضاتي , ولم يرقص الدم في عروقي , إنها فتاة مثل كل الفتيات , ركز النظر يا صاحبي , إنها متوسطة الجمال , ولا يظهر إنها تلبي رغبات صاحبنا , مع اعترافي أن لها جاذبية لا تخفى على ناظرها .

العقل : انتظر لحظة , سأفسر لك كيف نفكر نحن ..معشر العقول . اسمع يا صاحبي .. لم يكن الجمال عندنا يوما أول المقاييس .. سأشرح لك أكثر , هل نظرت لها كيف تبدو بين صويحباتها ؟ انظر تأثيرها عليهم , وعلى المجتمع من حولها ، بل انظر إلى ذلك النور المضيء من وجهها , والله إني لأراه أشد من نور القمر تألقاً , هل لاحظت عفتها , بل هل لفت نظرك حياؤها ؟

هل تتبعت أخبارها , أكاد أجزم أنك لم تفعل , لأنه لا هم لك سوى الجمال , وعذوبة الصوت , وحلو الكلام . أما أنا فقد فعلت , وإليك لمحة عطرة عما أدهشني من تلك الفتاة : لقد وجدتها بين صويحباتها كالشمس , والأفلاك تدور حولها , لقد وجدتها قدوة لهم في كل شيء , يحبونها كما لو أنها أخت لهم من لحم ودم , وقد أدهشني ذلك فأثار فضولي لأتتبع سبب ذلك . وفعلا , فقد استطعت أن أتلمس عن حالها في خلوتها , وجدتها وكأنها لراهبة في صومعتها .. صلاة وذكر ... ابتهال وتضرع ... خوف ورجاء , لقد أدهشني حالها وفي نفس الوقت عرفت سبب حب الآخرين لها فهو نابع من حب الله لها (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلانا ًفأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض) . فقررت أن أكمل البحث والتنقيب في بقية حياتها , أردت أن أعرف كيف هي مع المجتمع الذي حولها وتساءلت كيف تعيش تلك الطاهرة في هذه الغابة دون أن تتأذى . . لكنها فاجأتني بحسن تصرفها , لقد وجدت ابتسامتها لا تفارق ثغرها الصغير مع كل من تلقاه بغض النظر عن توجهه وانتمائه . كانت لا تتوانى عن مساعدة ملهوف أو فك كربة ضاق بها أحدهم . لقد أحبها الجميع ... الجميع بلا استثناء , أحبوها وبدؤوا بالاقتراب منها وجعلوها قدوة لهم . لقد نجحت في ذلك لأنها آمنت أن الحال هو أبلغ من المقال . هذا بالإضافة لإعانتها أخواتها في دور الأيتام على مسح دموعهم وإعانتهم على مصاعب حياتهم . لقد أحبت الخير أينما كان .. ولعلني لم أر مثلها من قبل . وقد استطعت أن أدخل إلى خفايا عقلها بطرقي الخاصة , فوجدت فكراً متقداً . تخيل أنها من الآن تفكر أن أول ولد لها ستسميه صلاح الدين وسيكون حفيد صلاح الدين الأيوبي وستعمل ما بوسعها لتربيته وتأديبه ليكون على نهج جده ويحرر الأقصى من براثن اليهود .

إنها امرأة.. لكنها ليست كالنساء اللواتي ملأت قلوبهم وعقولهم الأزياء والموضة , لا.. إنها ليست منهم , إنها امرأة.. وبداخلها بركان , لم تسيطر هذه الترهات على عقلها ولم تكن هذه الأمور من أولوياتها , ( مع العلم أنها لا تهمل أناقتها وشكلها مع الحفاظ على كامل العفة , فهما أمران لا ينفصلان ولا يتعارضان أبدا) , لأن هناك أمورا أكبر شغلتها وأقضت مضجعها . إن عقلها يزن عقل مائة رجل ,, يا لها من امرأة , أرأيت يا صاحبي .. أتمنى أن تكون قد غيرت رأيك بهذه الفتاة , وأنها تصلح زوجة لصاحبنا وأماً لأولاده.

القلب : مهلا .. مهلا ... لقد أخذت نصيبك ونصيبي من الكلام , ولم أرد أن أقاطعك لأكمل لك وجهة نظري .

صحيحٌ أن الجمال عندي من الأساسيات , وعذوبةُ الصوت عندي من الأولويات , وحلو الكلام عندي من المهمات , لكني لم أكمل لك بقية اهتماماتي , ألم تعلم أيها العقل أن القلوب تطربُ بصفاء الروح .. وتميلُ بألحان القرآن .. وترقصُ عند ذكر الله .

ألم تعلم أن القلوب تهوى الأوطان والمقدسات .. وتعشق حب الخير .

ولكن ويحاً لك أيها العقل , كيف استطعت الحصول على كل هذه المعلومات .

العقل : هذا هو الفرق بيني وبينك أيها القلب , أنا أبحث و أنقب و أنت تحكم من النظرات الأولى .

القلب : أتعلم أيها العقل لقد تعادلنا تقريبا , فما أثار اندهاشك في تلك الفتاة هو هو ما طرب لبي له بعد أن أخبرتني بالحقائق , لكني تفوقت عليك , لأنني قلت لك في بداية الحوار أنها ذات جاذبية بشكلها وهذا لا يهمك , لقد ربحتك بنقطة .

ضحك الاثنان , وانتهى الحوار بشكل حضاري إيجابي ومشيت في طريقي .

وفي اليوم التالي وقعت عيني عليها وهي على نفس كرسي البارحة فأحسست عندها بإحساس غير إحساس الأمس , لقد بدأ قلبي يسرع النبض ويرقص الدم في العروق . وأخذ العقل يضيء مصابيح المعرفة والنشوة بإقناع القلب بأفكاره .

فأيقنت عندها أنه الحب .. لكنه ليس كالحب الرخيص الماجن , إنه حب بدء بالعقل ونما إلى القلب وتربع على المشاعر, ذلك الحب الطاهر العفيف الذي رُشت بذوره في الأرض وامتد بكبرياء إلى السماء وأثمر شبلا.. رضع فكر أمه وتغذى على صبر أبيه , إنه .. صلاح الدين الحفيد .. فاتح الأقصى بإذن الله .

فتووووووووووووووووووووووووووووووووووووووش